السؤال:
أعيش في بلد غير إسلامي يشهد عنفاً غير مسبوق ضد المسلمين في الآونة الأخيرة ، ولدي صديق مقرب من غير المسلمين (بوذي) ، وقد طلب مني أن أقرضه بعض المال ، لسداد رسوم دراسته ، وقد ساعدته كثيراً ، وساعدني بالمثل في مرات عديدة ، ولا أدري حقيقة ما موقفه مما يحدث للمسلمين هذه الأيام ؛ لأننا لم نتحدث في هذا الموضوع على الإطلاق . وصرت أتساءل عمّا إذا كان يجب علي المحافظة على أصدقائي من غير المسلمين ومساعدتهم متى اقتضت الحاجة أم لا ، هل أبقي الصداقة مع شخص يحارب قومه الإسلام ؟
أولاً:
الجواب :
الحمد لله
لا يجوز للمسلم أو المسلمة اتِّخاذ غير المسلم صديقًا أو وليًّا؛ لقول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) المائدة/51.
وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) آل عمران/118، والبطانة هم الأشخاص المقربون من الإنسان .
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: " نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْيَهُودِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ دُخَلَاءَ وَوُلَجَاءَ ، [يعني : أصدقاء ومقربين ] يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الْآرَاءِ ، وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ " انتهى من " الجامع لأحكام القرآن " (4 /178) .
وقال سبحانه وتعالى: ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) الآية المجادلة/22.
فنهى الله تعالى المسلمين عن مودَّة الكافرين وموالاتهم واتِّخاذهم بطانة وأولياء ، وأخبر أنَّ هذا ليس من صفات مَن يؤمن بالله واليوم الآخر .
وثبتَ في الحديث ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا ، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ ) رواه أبو داود (4832) ، والترمذي (2395) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الجامع " (7341).
قال في " دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين " : " فيه نهي عن موالاة الكفَّار ومودَّتهم ومصاحبتهم " انتهى (3 /229) .
فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم " عَنْ مُصَاحَبَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ ؛ لِأَنَّ مُصَاحَبَتَهُمْ مُضِرَّةٌ فِي الدِّينِ" انتهى من " مرقاة المفاتيح " (8 /3141).
ومعلوم أنَّ الصداقة والصُّحبة تَجْلِب المودَّة والحُبّ ، وقد يترتَّب عليها مَيل القلب للصاحب والرِّضا بدينه ، وهذا قد يؤدِّي إلى الكفر عياذًا بالله تعالى ، ومن شأن الصداقة أن يكتسب الصَّديق من صديقه أخلاقَه وتصرُّفاته ؛ كما في الحديث: ( الرَّجُلُ عَلَى دِينِ [أي: عادة وطريقة وسيرة ] خَلِيلِهِ ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ) رواه أبو داود (4833) ، والترمذي (2378) ، وهو في " السلسلة الصحيحة " للألباني (927) .
ومَنْع صداقة غير المسلم لا يعني مقاطعته مقاطعة تامَّة - إذا كان غير محاربٍ أو معروف بالعداء للمسلمين - ، خاصَّة إذا كان جارًا في السكن أو في العمل ، ولا تعني المَنْع من بِرِّه والإحسان إليه ، وقبول هديَّته ، وعيادته ، ومعاملته ماليًّا ؛ بل كلُّ هذا جائز إذا لم يُخشَ الوقوع في الحرام – من غير مودَّة قلبيَّة ، ومُشاركة في محرَّم أو معاونة عليه - ، خاصَّة إذا كان بنيَّة الدَّعْوَة إلى الإسلام والترغيب في الدِّين .
كما قال تعالى: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الممتحنة/8.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله : " أي : لا ينهاكم الله عن البِرّ والصلة ، والمكافأة بالمعروف ، والقسط للمشركين ، من أقاربكم وغيرهم ، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدِّين والإخراج من دياركم ؛ فليس عليكم جناح أن تَصِلوهم ؛ فإنَّ صِلتهم في هذه الحالة لا محذور فيها ولا مفسدة ؛ كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلمًا: ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ) " .
انتهى من تفسيره (ص 856).
وقد سُئلَ علماء اللجنة الدائمة للإفتاء : هل يجوز للمسلم أن يتخذ صديقًا نصرانيًّا، يسير معه ويزوره ويذاكر معه ، ونحو ذلك ؟
فأجابوا: "يجوز للمسلم أن يُعامِل الكافر غير الحربي بالمعروف ، ويقابل بِرَّه بالبر ، ويتبادل معه المنافع والهدايا ، لكن لا يواليه ولاءَ وُدٍّ ومحبَّة " انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة " (26 /89).
وينظر للاستزادة جواب السؤال رقم: (
23325) ، (
161052)، (
129664).
ثانيًا:
الأصل في المعاملات الماليَّة بين المسلمين وغير المسلمين الجواز - طالما كانت معاملةً مُباحة محكومة بالشرع - ، لا فرق بين المحارِب وغيره ، بيعًا وشراءً وقرضًا وإقراضًا وإجارةً وغيرها؛ فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعامل مع المشركين واليهود بيعًا وشراءً.
وثبتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ ، بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِير " رواه البخاري (2916).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " تجوز مُعَامَلَةُ الْكُفَّارِ فِيمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ تَحْرِيمُ عَيْنِ الْمُتَعَامَلِ فِيهِ " انتهى من " فتح الباري" (5 /141).
وقد سُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله عن مُعاملة التتار: هل هي مُباحة لمَن يعاملونه ؟
فأجاب: " أما معاملة التتار فيجوز فيها ما يجوز في أمثالهم ، ويحرم فيها ما يحرم من معاملة أمثالهم ؛ فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم وخيلهم ونحو ذلك كما يبتاع من مواشي التركمان والأعراب والأكراد وخيلهم ، ويجوز أن يبيعهم من الطعام والثياب ونحو ذلك ما يبيعه لأمثالهم.
فأمَّا إن باعَهم وباع غيرهم ما يُعينهم به على المحرَّمات ، كالخيل والسلاح لمَن يقاتل به قتالاً محرَّمًا ؛ فهذا لا يجوز ..." انتهى من " مجموع الفتاوى " (29 /275).
ثالثًا:
وعلى هذا ؛ فلا مانع من إقراض المسلم غيرَ المسلم - قرضًا حسنًا - بعضَ المال لسداد رسوم دراسته، خاصَّة إذا كان هذا في مقابل إحسانه ومساعدته لك قبل ذلك .
فاحرص على أن يكون صاحبك مؤمنا تقيا ، يذكرك بالله إن نسيته ، ويعينك على طاعة الله تعالى ، ولا تمتنع من الإحسان إلى غير المسلمين الذين لا يحاربون المسلمين ولا يؤذونهم .
والله أعلم .