فضل العمل في أيّام التّشريق
تعتبر الأيّام الثلاثة بعد يوم النّحر ”أيّام تشريق”، وهي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحِجّة، ويوم النّحر ليس منها، وهي الأيّام المعدودات الّتي قال الله عزّ وجلّ فيها: ”وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ” البقرة:203.
لكلّ يوم من أيّام التّشريق اسم يخصّه، فأوّلها وهو اليوم الحادي عشر يُسَمّى يوم القَرَّ؛ لأنَّ أهل مِنى يستقرّون فيه. ثمّ يوم النّفر الأوّل وهو أوسطها، لأنّه ينفر فيه مَن تعجَّل من الحجّاج. ثمّ يوم النّفر الثاني وهو آخرها، وهي أيّام مباركة فاضلة يُشرَع فيها جملة أحكام منها ما يخصّ الحجّاج أن يقوموا به، ومنها ما لا يختصّون به.
فذِكْرُ الله تعالى من أفضل العبادات وأجلّها، بل عدّه معاذ بن جبل رضي الله عنه أفضل عبادة على الإطلاق، إذ قال: ”ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذِكر الله تعالى”، قالوا: يا أبا عبد الرّحمن، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا، إلاّ أن يضرب بسيفه حتّى ينقطع، لأنّ الله تعالى يقول في كتابه: ”وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ”، فذِكرُه تعالى فيه حياة القلوب وطمأنينتها وسكينتها كما قال تعالى: ”أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” الرعد:28.
ولمّا كانت هذه الأيّام هي آخر أيّام موسم فاضل، فالحجّاج فيها يكملون حجّهم، وغير الحجّاج يختمونها بالتقرّب إلى الله تعالى بالضحايا بعد عمل صالح في أيّام العشر، استحبّ أن يختم هذا الموسم بذِكْر الله تعالى للحجّاج وغيرهم. وقد أمر الله تعالى الحجّاج فقال: ”فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا” البقرة:200.
ويُتأكَّد في هذه الأيّام المباركة التّكبير بأدبار الصّلوات المكتوبات، وفي كلّ وقت إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر للحجّاج وغيرهم. وقد كان سيّدنا عمر رضي الله عنه يُكَبِّر في قُبَّتِه بمِنى فيسمعه أهل المسجد فيُكبِّرون، ويُكبِر أهل الأسواق حتّى ترتج مِنى تكبيرًا. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يُكبِّر بمِنى تلك الأيّام، وخلف الصّلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيّام جميعًا. وكانت أمّ المؤمنين السيّدة ميمونة رضي الله عنها تُكبِّر يوم النّحر، وكان النساء يُكبِّرْن خلف أبان بن عفان وعمر بن عبد العزيز ليالي التّشريق مع الرّجال في المساجد.
ولقد بلغ من أهمية التّكبير بأدبار الصّلوات في أيّام التّشريق، أنّ بعض العلماء قالوا: يقضيه إذا نسيه، فإذا نسيَ أن يُكبِّر عقب الصّلاة فإنّه يُكبِّر إذا ذَكَرَ ولو أحدث أو خرج من المسجد ما لم يطل الفصل بين الصلاة والتّكبير.
ويُباح في أيّام التّشريق اللّهو المباح والتّوسعة على العيال وإظهار الفرح والسّرور، لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ”يوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيّام أكل وشُرب” رواه أبو داود والترمذي. وعن عائشة رضي الله عنها أنّ أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيّام مِنى تدفّفان وتضربان والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم متغشٍ بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن وجهه فقال: ”دعهما يا أبا بكر فإنّها أيّام عيد وتلك الأيّام أيّام مِنى” رواه البخاري.
والّذي ينبغي أن يستغل الحاج بقاءه في مِنى بالعبادة والإكثار من الأعمال الصّالحة كالطّواف، فقد ”كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يزور الكعبة، ويطوف بها كلّ ليلة من ليالي مِنى” أخرجه البخاري،
وكالصّلاة في المسجد الحرام لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه” أخرجه أحمد وغيره.
وكذلك الذِّكر والدّعاء، كما أنّها فرصة عظيمة ليلتقي بإخوانه المسلمين الّذين جاؤوا من كلّ أصقاع العالم، فيتعرّف على أحوالهم، كما يجب أن يكون حريصًا على التّحليّ بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال؛ فإنّ الحسناتِ تتضاعف في مثل هذه الأيّام المباركة.
وأمّا غير الحاج فإنَّ أيّام التشريق أيّام عيد فيستغلها بما تُّستَغل به أيّام الأعياد؛ من صِلة رحم وتزاور، وفي قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها أيّام أكل وشُرب وذِكْر لله تعالى إشارة إلى أنّ الأكل في أيّام الأعياد إنّما يُستعان به على ذِكْر الله سبحانه وتعالى وطاعته، وهذا من تمام شُكر النِّعمة.